الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْقَوْلُ فِي تَأْوِِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا}. يَعْنِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} يَقُولُ: إِنَّا حَكَمْنَا لَكَ يَا مُحَمَّدُ حُكْمًا لِمَنْ سَمِعَهُ أَوْ بَلَغَهُ عَلَى مَنْ خَالَفَكَ وَنَاصَبَكَ مِنْ كَفَّارِ قَوْمِكَ، وَقَضَيْنَا لَكَ عَلَيْهِمْ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ، لِتَشْكُرَ رَبَّكَ، وَتَحْمَدَهُ عَلَى نِعْمَتِهِ بِقَضَائِهِ لَكَ عَلَيْهِمْ، وَفَتْحِهِ مَا فَتَحَ لَك، وَلِتُسَبِّحَهُ وَتَسْتَغْفِرَهُ، فَيَغْفِرَ لَكَ بِفِعَالِكَ ذَلِكَ رَبُّكَ، مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ قَبْلَ فَتْحِهِ لَكَ مَا فَتَحَ، وَمَا تَأَخَّرَ بَعْدَ فَتْحِهِ لَكَ ذَلِكَ مَا شَكَرْتَهُ وَاسْتَغْفَرْتَهُ. وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا هَذَا الْقَوْلَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ لِدَلَالَةِ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} عَلَى صِحَّتِهِ، إِذْ أَمَرَهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنْ يُسَبِّحَ بِحَمْدِ رَبِّهِ إِذَا جَاءَهُ نَصْرُ اللَّهِ وَفَتَحَ مَكَّةَ، وَأَنْ يَسْتَغْفِرَهُ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ تَوَّابٌ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَفِي ذَلِكَ بَيَانٌ وَاضِحٌ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} إِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ جَزَائِهِ لَهُ عَلَى شُكْرِهِ لَهُ، عَلَى النِّعْمَةِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ مِنْ إِظْهَارِهِ لَهُ مَا فَتَحَ؛ لِأَنَّ جَزَاءَ اللَّهِ تَعَالَى عِبَادَهُ عَلَى أَعْمَالِهِمْ دُونَ غَيْرِهَا. وَبَعْدُ فَفِي صِحَّةِ الْخَبَرِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «أَنَّهُ كَانَ يَقُومُ حَتَّى تَرِمَ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَفْعَلُ هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ: أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟ » "، الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى أَنَّ الَّذِي قُلْنَا مِنْ ذَلِكَ هُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، إِنَّمَا وَعَدَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُفْرَانَ ذُنُوبِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَتَحَ مَا فَتَحَ عَلَيْهِ، وَبَعْدَهُ عَلَى شُكْرِهِ لَهُ، عَلَى نِعَمِهِ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "«إِنِّي لِأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّة»" وَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَنَّهُ قَدْ غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، لَمْ يَكُنْ لِأَمْرِهِ إِيَّاهُ بِالِاسْتِغْفَارِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا لِاسْتِغْفَارِ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ مِنْ ذُنُوبِهِ بَعْدَهَا مَعْنًى يُعْقَلُ، إِذْالِاسْتِغْفَارُ مَعْنَاهُ: طَلَبُ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ غُفْرَانَ ذُنُوبِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذُنُوبٌ تُغْفَرُ لَمْ يَكُنْ لِمَسْأَلَتِهِ إِيَّاهُ غُفْرَانَهَا مَعْنًى؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ يُقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبًا لَمْ أَعْمَلْهُ. وَقَدْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ بِمَعْنَى: لِيَغْفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ قَبْلَ الرِّسَالَةِ، وَمَا تَأَخَّرَ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي قَالَ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}. وَأَمَّا الْفَتْحُ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْعِدَةَ عَلَى شُكْرِهِ إِيَّاهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ فِيمَا ذُكِرَ الْهُدْنَةُ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ مُشْرِكِي قُرَيْش بِالْحُدَيْبِيَةَ. وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أُنْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْصَرَفَهُ عَنِ الْحُدَيْبِيَةِ بَعْدَ الْهُدْنَةِ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} قَالَ: قَضَيْنَا لَكَ قَضَاءً مُبِينًا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} وَالْفَتْحُ: الْقَضَاءُ. ذِكْرُ الرِّوَايَةِ عَمَّنْ قَالَ: هَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي ذَكَرْتُ. حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: ثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عَامِرٍ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} قَالَ: الْحُدَيْبِيَةُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} قَالَ: نَحْرُهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَحَلْقُهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّه بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو بَحْرٍ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: ثَنَا جَامِعُ بْنُ شَدَّادٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ، قَالَ: «سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ " لَمَّا أَقْبَلْنَا مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ أَعَرَسْنَا فَنِمْنَا، فَلَمْ نَسْتَيْقِظْ إِلَّا بِالشَّمْسِ قَدْ طَلَعَتْ، فَاسْتَيْقَظْنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَائِمٌ، قَالَ: فَقُلْنَا أَيْقِظُوهُ، فَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: افْعَلُوا كَمَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ، فَكَذَلِكَ مَنْ نَامَ أَوْ نَسِيَ قَالَ: وَفَقَدْنَا نَاقَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدْنَاهَا قَدْ تَعَلَّقَ خِطَامُهَا بِشَجَرَةٍ، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَرَكِبَ فَبَيْنَا نَحْنُ نَسِيرُ، إِذْ أَتَاهُ الْوَحْيُ، قَالَ: وَكَانَ إِذَا أَتَاهُ اشْتَدَّ عَلَيْهِ؛ فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ أُنِزِلَ عَلَيْهِ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} "». حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ، قَالَ: ثَنَا الْمُعْتَمِرُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: «لَمَّا رَجَعْنَا مِنْ غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ نُسِكِنَا، قَالَ: فَنَحْنُ بَيْنَ الْحُزْنِ وَالْكَآبَةِ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}، أَوْ كَمَا شَاءَ اللَّهُ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا». حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فِي قَوْلِهِ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} قَالَ: نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْجِعَهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نُسِكِهِمْ، فَنَحَرَ الْهَدْيَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَأَصْحَابُهُ مُخَالِطُو الْكَآبَةِ وَالْحُزْنِ، فَقَالَ: لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا، فَقَرَأَ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}... إِلَى قَوْلِهِ (عَزِيزًا) فَقَالَ أَصْحَابُهُ هَنِيئًا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَنَا مَاذَا يَفْعَلُ بِكَ، فَمَاذَا يَفْعَلُ بِنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ بَعْدَهَا {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا}... إِلَى قَوْلِهِ {وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا}. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: ثَنَا هَمَّامُ، قَالَ: ثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ بِنَحْوِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: « فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: هَنِيئًا لَكَ مَرِيئًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَالَ أَيْضًا: فَبَيَّنَ اللَّهُ مَاذَا يَفْعَلُ بِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمَاذَا يَفْعَلُ بِهِم». حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «وَنَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} مَرْجِعَهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ قَرَأَهَا عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: هَنِيئًا مَرِيئًا يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَكَ مَاذَا يَفْعَلُ بِكَ، فَمَاذَا يَفْعَلُ بِنَا؟ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}... إِلَى قَوْلِهِ {فَوْزًا عَظِيمًا}». حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ وَابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} قَالُوا: هَنِيئًا مَرِيئًا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَاذَا لَنَا؟ فَنَزَلَتْ {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ}. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} قَالَ: الْحُدَيْبِيَةُ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: مَا كُنَّا نَعُدُّ فَتْحَ مَكَّةَ إِلَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ سِيَاهٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: «تَكَلَّمَ سَهْلُ بْنُ حَنِيفٍ يَوْمَ صَفِّينَ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ، لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، يَعْنِي الصُّلْحَ الَّذِي كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا، فَجَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَسْنَا عَلَى حَقٍّ وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ؟ أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَفِيمَ نُعْطَى الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا، وَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيَّعَنِي أَبَدًا"، قَالَ: فَرَجَعَ وَهُوَ مُتَغَيِّظٌ، فَلَمْ يَصْبِرْ حَتَّى أَتَى أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْنَا عَلَى حَقٍّ وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ؟ أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ، وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَفِيمَ نُعْطَى الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا، وَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، لَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا، قَالَ: فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عُمَرَ، فَأَقْرَأَهُ إِيَّاهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَفَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ "». حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَسْعُودِيُّ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: مَا كُنَّا نَعُدُّ الْفَتْحَ إِلَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: تَعُدُّونَ أَنْتُمُ الْفَتْحَ فَتْحَ مَكَّةَ، وَقَدْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فَتْحًا، وَنَحْنُ نَعُدُّ الْفَتْحَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً، وَالْحُدَيْبِيَةُ: بِئْرٌ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ سَهْلٍ الرَّمْلِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: ثَنَا مُجَمِّعُ بْنُ يَعْقُوبَ الْأَنْصَارِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَمِّهِ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ الْأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ أَحَدَ الْقُرَّاءِ الَّذِينَ قَرَءُوا الْقُرْآنَ، قَالَ: «شَهِدْنَا الْحُدَيْبِيَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا انْصَرَفْنَا عَنْهَا، إِذَا النَّاسُ يَهُزُّونَ الْأَبَاعِرَ، فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: مَا لِلنَّاسِ، قَالُوا: أُوحِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} فَقَالَ رَجُلٌ: أَوَفَتْحٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، والَذِّي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَفَتْحٌ، قَالَ: فَقُسِّمَتْ خَيْبَرُ عَلَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ فِيهَا أَحَدٌ إِلَّا مَنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ، وَكَانَ الْجَيْشُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، فِيهِمْ ثَلَاثُمِائَةِ فَارِسٍ، فَقَسَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، فَأَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ، وَأَعْطَى الرَّاجِلَ سَهْمًا». حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: "نَزَلَتْ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَأَصَابَ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ مَا لَمْ يُصِبْهُ فِي غَزْوَةٍ، أَصَابَ أَنْ بُويِعَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَغُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، وَبَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، وَأُطْعِمُوا نَخْلَ خَبِيرَ، وَفَرِحَ الْمُؤْمِنُونَ بِتَصْدِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِظُهُورِ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ ". وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} بِإِظْهَارِهِ إِيَّاكَ عَلَى عَدُوِّكَ، وَرَفْعِهِ ذِكْرَكَ فِي الدُّنْيَا، وَغُفْرَانِهِ ذُنُوبَكَ فِي الْآخِرَةِ {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} يَقُولُ: وَيُرْشِدُكَ طَرِيقًا مِنَ الدِّينِ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، يَسْتَقِيمُ بِكَ إِلَى رِضَا رَبِّكَ {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} يَقُولُ: وَيَنْصُرُكَ عَلَى سَائِرِ أَعْدَائِكَ، وَمَنْ نَاوَأَكَ نَصْرًا لَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ، وَلَا يَدْفَعُهُ دَافِعٌ، لِلْبَأْسِ الَّذِي يُؤَيِّدُكَ اللَّهُ بِهِ، وَبِالظَّفَرِ الَّذِي يَمُدُّكَ بِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}. يَعْنِي جَلَّ ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} اللَّهُ أَنْزَلَ السُّكُونَ وَالطُّمَأْنِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْحَقِّ الَّذِي بَعَثَكَ اللَّهُ بِهِ يَا مُحَمَّدُ. وَقَدْ مَضَى ذِكْرُ اخْتِلَافِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى السِّكِّينَةِ قَبِلُ، وَالصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ بِالشَّوَاهِدِ الْمُغْنِيَةِ عَنْ إِعَادَتِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} يَقُولُ: لِيَزْدَادُوا بِتَصْدِيقِهِمْ بِمَا جَدَّدَ اللَّهُ مِنَ الْفَرَائِضِ الَّتِي أَلْزَمَهُمُوهَا الَّتِي لَمْ تَكُنْ لَهُمْ لَازِمَةً {إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} يَقُولُ: لِيَزْدَادُوا إِلَى إِيمَانِهِمْ بِالْفَرَائِضِ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ لَازِمَةً قَبْلَ ذَلِكَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} قَالَ: السَّكِينَةُ: الرَّحْمَةُ {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} قَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بَعَثَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَلَمَّا صَدَّقُوا بِهَا زَادَهُمُ الصَّلَاةَ، فَلَمَّا صَدَّقُوا بِهَا زَادَهُمُ الصِّيَامَ، فَلَمَّا صَدَّقُوا بِهِ زَادَهُمُ الزَّكَاةَ، فَلَمَّا صَدَّقُوا بِهَا زَادَهُمُ الْحَجَّ، ثُمَّ أَكْمَلَ لَهُمْ دِينَهُمْ، فَقَالَ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَوْثَقُ إِيمَانِ أَهْلِ الْأَرْضِ وَأَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَأَصْدَقُهُ وَأَكْمَلُهُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَوْلُهُ {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْصَارٌ يَنْتَقِمُ بِهِمْ مِمَّنْ يَشَاءُ مِنْ أَعْدَائِهِ {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَمْ يَزَلِ اللَّه ذَا عِلْمٍ بِمَا هُوَ كَائِنٌ قَبْلَ كَوْنِهِ، وَمَا خَلْقُهُ عَامِلُوهُ، حَكِيمًا فِي تَدْبِيرِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، لِتَشْكُرَ رَبَّكَ، وَتَحْمَدَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَيَغْفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، وَلِيَحْمَدَ رَبَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَيَشْكُرُوهُ عَلَى إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَتْحِ الَّذِي فَتَحَهُ، وَقَضَاهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، بِإِظْهَارِهِ إِيَّاهُمْ عَلَيْهِمْ، فَيُدْخِلَهُمْ بِذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، مَاكِثِينَ فِيهَا إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ وَلِيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَ أَعْمَالِهِمْ بِالْحَسَنَاتِ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا شُكْرًا مِنْهُمْ لِرَبِّهِمْ عَلَى مَا قَضَى لَهُمْ، وَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِهِ {وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَكَانَ مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْعِدَةِ، وَذَلِكَ إِدْخَالُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، وَتَكْفِيرُهُ سَيِّئَاتِهِمْ بِحَسَنَاتِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا عِنْدَ اللَّهِ لَهُمْ {فَوْزًا عَظِيمًا} يَقُولُ: ظَفَرًا مِنْهُمْ بِمَا كَانُوا تَأَمَّلُوهُ وَيَسْعَوْنَ لَهُ، وَنَجَاةً مِمَّا كَانُوا يَحْذَرُونَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عَظِيمًا. قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الرِّوَايَةِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ لَمَّا قَالَ الْمُؤْمِنُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ تَلَا عَلَيْهِمْ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} هَذَا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَاذَا لَنَا؟ تَبْيِينًا مِنَ اللَّهِ لَهُمْ مَا هُوَ فَاعِلٌ بِهِمْ. حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}... إِلَى قَوْلِهِ {وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} فَأَعْلَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. قَوْلُهُ {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} عَلَى اللَّامِ مِنْ قَوْلِهِ {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} بِتَأْوِيلِ تَكْرِيرِ الْكَلَامِ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ}، إِنَّا فَتْحُنَا لَكَ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَدْخُلِ الْوَاوُ الَّتِي تَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ لِلْعَطْفِ، فَلَمْ يَقِلْ: وَلِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ، وَلِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، وَلِيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ، بِفَتْحِ اللَّهِ لَكَ يَا مُحَمَّدُ، مَا فَتَحَ لَكَ مِنْ نَصْرِكَ عَلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، فَيُكْبَتُوا لِذَلِكَ وَيَحْزَنُوا، وَيَخِيبَ رَجَاؤُهُمُ الَّذِي كَانُوا يَرْجُونَ مِنْ رُؤْيَتِهِمْ فِي أَهْلِ الْإِيمَانِ بِكَ مِنَ الضَّعْفِ وَالْوَهَنِ وَالتَّوَلِّي عَنْكَ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا، وَصَلْيِ النَّارِ وَالْخُلُودِ فِيهَا فِي آجِلِ الْآخِرَةِ {وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} يَقُولُ: وَلِيُعَذِّبَ كَذَلِكَ أَيْضًا الْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ} أَنَّهُ لَنْ يَنْصُرَكَ، وَأَهْلَ الْإِيمَانِ بِكَ عَلَى أَعْدَائِكَ، وَلَنْ يُظْهِرَ كَلِمَتَهُ فَيَجْعَلَهَا الْعُلْيَا عَلَى كَلِمَةِ الْكَافِرِينَ بِهِ، وَذَلِكَ كَانَ السُّوءَ مِنْ ظُنُونِهِمُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ، وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الَّذِينَ ظَنُّوا هَذَا الظَّنَّ دَائِرَةُ السَّوْءِ، يَعْنِي دَائِرَةَ الْعَذَابِ تَدُورُ عَلَيْهِمْ بِهِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ {دَائِرَةُ السَّوْءِ} بِفَتْحِ السِّينِ. وَقَرَأَ بَعْضُ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ {دَائِرَةُ السُّوءِ} بِضَمِّ السِّينِ. وَكَانَ الْفَرَّاءُ يَقُولُ: الْفَتْحُ أَفْشَى فِي السِّينِ؛ قَالَ: وَقَلَّمَا تَقُولُ الْعَرَبُ دَائِرَةُ السُّوءِ بِضَمِّ السِّينِ، وَالْفَتْحُ فِي السِّينِ أَعْجَبُ إِلَيَّ مِنَ الضَّمِّ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: هُوَ رَجُلُ سَوْءٍ، بِفَتْحِ السِّينِ؛ وَلَا تَقُولُ: هُوَ رَجُلُ سُوءٍ. وَقَوْلُهُ {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} يَقُولُ: وَنَالَهُمُ اللَّهُ بِغَضَبٍ مِنْهُ، وَلَعَنَهُمْ: يَقُولُ: وَأَبْعَدَهُمْ فَأَقْصَاهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ} يَقُولُ: وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ {وَسَاءَتْ مَصِيرًا} يَقُولُ: وَسَاءَتْ جَهَنَّمُ مَنْزِلًا يَصِيرُ إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ، وَالْمُشْرِكُونَ وَالْمُشْرِكَاتُ. وَقَوْلُهُ {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْصَارًا عَلَى أَعْدَائِهِ، إِنْ أَمَرَهُمْ بِإِهْلَاكِهِمْ أَهْلَكُوهُمْ، وَسَارَعُوا إِلَى ذَلِكَ بِالطَّاعَةِ مِنْهُمْ لَهُ {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَمْ يَزَلِ اللَّهُ ذَا عِزَّةٍ، لَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ، وَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مِمَّا أَرَادَهُ بِهِ مُمْتَنِعٌ لِعِظَمِ سُلْطَانِهِ وَقُدْرَتِهُ، حَكِيمًا فِي تَدْبِيرِهِ خَلْقِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} يَا مُحَمَّدُ {شَاهِدًا} عَلَى أُمَّتِكَ بِمَا أَجَابُوكَ فِيمَا دَعَوْتَهُمْ إِلَيْهِ، مِمَّا أَرْسَلْتُكُ بِهِ إِلَيْهِمْ مِنَ الرِّسَالَةِ، وَمُبَشِّرًا لَهُمْ بِالْجَنَّةِ إِنْ أَجَابُوكَ إِلَى مَا دَعَوْتَهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الدِّينِ الْقَيِّمِ، وَنَذِيرًا لَهُمْ عَذَابَ اللَّهِ إِنْ هُمْ تَوَلَّوْا عَمَّا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ. ثُمَّ اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ} فَقَرَأَ جَمِيعَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ خَلَا أَبِي جَعْفَرٍ الْمَدَنِيِّ وَأَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ بِالتَّاءِ (لِتُؤْمِنُوا- وَتُعَزِّرُوهُ- وَتُوَقِّرُوهُ- وَتُسَبِّحُوهُ) بِمَعْنَى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْتُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَقَرَأَ ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو عَمْرٍو كُلُّهُ بِالْيَاءِ (لِيُؤْمِنُوا- وَيُعَزِّرُوهُ- وَيُوَقِّرُوهُ- وَيُسَبِّحُوهُ) بِمَعْنَى إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا إِلَى الْخَلْقِ لِيُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيُعَزِّرُوهُ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ صَحِيحَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} يَقُولُ: شَاهِدًا عَلَى أُمَّتِهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَهُمْ وَمُبَشِّرًا بِالْجَنَّةِ لِمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَنَذِيرًا مِنَ النَّارِ. وَقَوْلُهُ {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُجِلُّوهُ، وَتُعَظِّمُوهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (وَتُعَزِّرُوهُ) يَعْنِي: الْإِجْلَالَ (وَتُوَقِّرُوهُ) يَعْنِي: التَّعْظِيمَ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} كُلُّ هَذَا تَعْظِيمٌ وَإِجْلَالٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى قَوْلِهِ (وَتُعَزِّرُوهُ): وَيَنْصُرُوهُ، وَمَعْنَى (وَتُوَقِّرُوهُ) وَيُفَخِّمُوهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ (وَتُعَزِّرُوهُ): يَنْصُرُوهُ (وَتُوَقِّرُوهُ) أَمَرَ اللَّهُ بِتَسْوِيدِهِ وَتَفْخِيمِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ (وَتُعَزِّرُوهُ) قَالَ: يَنْصُرُوهُ، وَيُوَقِّرُوهُ: أَيْ لِيُعَظِّمُوهُ. حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ الضَّبُعِيُّ، قَالَ: ثَنَا حِرْمِيٌّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي وَحْشِيَّةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ (وَتُعَزِّرُوهُ) قَالَ: يُقَاتِلُونَ مَعَهُ بِالسَّيْفِ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثَنِي هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، مَثَلَهُ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَا ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، مِثْلَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَيُعَظِّمُوهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} قَالَ: الطَّاعَةُ لِلَّهِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَاتُ الْمَعْنَى، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ أَهْلِهَا بِهَا. وَمَعْنَى التَّعْزِيرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: التَّقْوِيَةُ بِالنُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِالطَّاعَةِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ. وَقَدْ بَيَّنَا مَعْنَى ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. فَأَمَّا التَّوْقِيرُ: فَهُوَ التَّعْظِيمُ وَالْإِجْلَالُ وَالتَّفْخِيمُ. وَقَوْلُهُ {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} يَقُولُ: وَتُصَلُّوا لَهُ يَعْنِي لِلَّهِ بِالْغَدَوَاتِ وَالْعَشِيَّاتِ. وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ (وَتُسَبِّحُوهُ) مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ الرَّسُولِ. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ: (وَيُسَبِّحُوا اللَّهَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا). وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} فِي بَعْضِ الْقِرَاءَةِ (وَيُسَبِّحُوا اللَّهَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا). حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي بَعْضِ الْحُرُوفِ {وَيُسَبِّحُوا اللَّهَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} يَقُولُ: يُسَبِّحُونَ اللَّهَ رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ} بِالْحُدَيْبِيَةِ مِنْ أَصْحَابِكَ عَلَى أَنْ لَا يَفِرُّوا عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَلَا يُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} يَقُولُ: إِنَّمَا يُبَايِعُونَ بِبَيْعَتِهِمْ إِيَّاكَ اللَّهَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لَهُمُ الْجَنَّةَ بِوَفَائِهِمْ لَهُ بِذَلِكَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ} قَالَ: يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} وَهُمُ الَّذِينَ بَايَعُوا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ. وَفِي قَوْلِهِ {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وَجْهَانِ مِنَ التَّأْوِيلِ: أَحَدُهُمَا: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ عِنْدَ الْبَيْعَةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُبَايِعُونَ اللَّهَ بِبَيْعَتِهِمْ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَالْآخَرُ: قُوَّةُ اللَّهِ فَوْقَ قُوَّتِهِمْ فِي نُصْرَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نُصْرَتِهِ عَلَى الْعَدُوِّ. وَقَوْلُهُ {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَمَنْ نَكَثَ بَيْعَتَهُ إِيَّاكَ يَا مُحَمَّدُ، وَنَقَضَهَا فَلَمْ يَنْصُرْكَ عَلَى أَعْدَائِكَ، وَخَالَفَ مَا وَعَدَ رَبَّهُ {فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} يَقُولُ: فَإِنَّمَا يَنْقُضُ بَيْعَتَهُ؛ لِأَنَّهُ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ يَخْرُجُ مِمَّنْ وَعَدَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِوَفَائِهِ بِالْبَيْعَةِ، فَلَمْ يَضُرَّ بِنَكْثِهِ غَيْرَ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَنْكُثْ إِلَّا عَلَيْهَا، فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَاصِرُهُ عَلَى أَعْدَائِهِ، نَكَثَ النَّاكِثُ مِنْهُمْ، أَوْ وَفَّى بِبَيْعَتِهِ. وَقَوْلُهُ {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ}... الْآيَةَ، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ مِنَ الصَّبْرِ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَنُصْرَةِ نَبِيِّهٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَعْدَائِهِ {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} يَقُولُ: فَسَيُعْطِيهِ اللَّهُ ثَوَابًا عَظِيمًا، وَذَلِكَ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ جَزَاءً لَهُ عَلَى وَفَائِهِ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ، وَوَثِقَ لِرَسُولِهِ عَلَى الصَّبْرِ مَعَهُ عِنْدَ الْبَأْسِ بِالْمُؤَكَّدَةِ مِنَ الْأَيْمَانِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} وَهِيَ الْجَنَّةُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَيَّيْهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَيَقُولُ لَكَ يَا مُحَمَّدُ الَّذِينَ خَلَّفَهُمُ اللَّهُ فِي أَهْلِيهِمْ عَنْ صُحْبَتِكَ، وَالْخُرُوجِ مَعَكَ فِي سَفَرِكَ الَّذِي سَافَرْتَ، وَمَسِيرِكَ الَّذِي سِرْتَ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا، زَائِرًا بَيْتَ اللَّهِ الْحَرَامَ إِذَا انْصَرَفْتَ إِلَيْهِمْ، فَعَاتَبْتَهُمْ عَلَى التَّخَلُّفِ عَنْكَ: شَغَلَتْنَا عَنِ الْخُرُوجِ مَعَكَ مُعَالَجَةُ أَمْوَالِنَا، وَإِصْلَاحُ مَعَايِشِنَا وَأَهْلُونَا، فَاسْتَغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا لِتَخَلُّفِنَا عَنْكَ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مُكَذِّبَهُمْ فِي قِيلِهِمْ ذَلِكَ: يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابُ الْمُخَلَّفُونَ عَنْكَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَذَلِكَ مَسْأَلَتُهُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاسْتِغْفَارَ لَهُمْ، يَقُولُ: يَسْأَلُونَهُ بِغَيْرِ تَوْبَةٍ مِنْهُمْ وَلَا نَدَمٍ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُمْ مَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فِي تَخَلُّفِهِمْ عَنْ صُحْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَسِيرِ مَعَهُ {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ يَسْأَلُونَكَ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُمْ لِتَخَلُّفِهِمْ عَنْكَ: إِنْ أَنَا اسْتَغْفَرْتُ لَكُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ، ثُمَّ أَرَادَ اللَّهُ هَلَاكَكُمْ أَوْ هَلَاكَ أَمْوَالِكُمْ وَأَهْلِيكُمْ، أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بِتَثْمِيرِهِ أَمْوَالَكُمْ وَإِصْلَاحِهِ لَكُمْ أَهْلِيكُمْ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى دَفْعٍ مَا أَرَادَ اللَّهُ بِكُمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَاللَّهُ لَا يُعَازُّهُ أَحَدٌ، وَلَا يُغَالِبُهُ غَالِبٌ. وَقَوْلُهُ {بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا الْأَمْرُ كَمَا يَظُنُّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ مَا هُمْ عَلَيْهَا مُنْطَوُونَ مِنَ النِّفَاقِ، بَلْ لَمْ يَزَلِ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ خَبِيرًا، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ خَلْقِهِ، سِرِّهَا وَعَلَانِيَتِهَا، وَهُوَ مُحْصِيهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى يُجَازِيَهُمْ بِهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ حِينَ أَرَادَ الْمَسِيرَ إِلَى مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ مُعْتَمِرًا اسْتَنْفَرَ الْعَرَبَ وَمَنْ حَوْلِ مَدِينَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي وَالْأَعْرَابِ لِيَخْرُجُوا مَعَهُ حَذَرًا مِنْ قَوْمِهِ قُرَيْشٍ أَنْ يَعْرِضُوا لَهُ الْحَرْبَ، أَوْ يَصُدُّوهُ عَنِ الْبَيْتِ، وَأَحْرَمَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعُمْرَةِ، وَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ، لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ حَرْبًا، فَتَثَاقَلَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَتَخَلَّفُوا خِلَافَهُ فَهُمُ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا}... الْآيَةَ. وَكَالَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِسِيَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَغَازِيهِ، مِنْهُمُ ابْنُ إِسْحَاقَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِذَلِكَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} قَالَ: أَعْرَابُ الْمَدِينَةِ: جُهَيْنَةُ وَمُزَيْنَةُ، اسْتَتْبَعَهُمْ لِخُرُوجِهِ إِلَى مَكَّةَ، قَالُوا: نَذْهَبُ مَعَهُ إِلَى قَوْمٍ قَدْ جَاءُوهُ، فَقَتَلُوا أَصْحَابَهُ فَنُقَاتِلُهُمْ! فَاعْتَلُّوا بِالشُّغْلِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا} فَقَرَأَتْهُ قُرَّاءُ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ (ضَرًّا) بِفَتْحِ الضَّادِ، بِمَعْنَى الضُّرِّ الَّذِي هُوَ خِلَافَ النَّفْعِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ (ضُرًّا) بِضَمِّ الضَّادِ، بِمَعْنَى الْبُؤْسِ وَالسَّقَمِ. وَأَعْجَبُ الْقِرَاءَتَيْنِ إِلَيَّ الْفَتْحُ فِي الضَّادِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِقَوْلِهِ {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا}، فَمَعْلُومٌ أَنَّ خِلَافَ النَّفْعِ الضُّرُّ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى صَحِيحًا مَعْنَاهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِهَؤُلَاءِ الْأَعْرَاب الْمُعْتَذِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مُنْصَرَفِهِ مِنْ سَفَرِهِ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِمْ {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} مَا تَخَلَّفْتُمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ شَخَصَ عَنْكُمْ، وَقَعَدْتُمْ عَنْ صُحْبَتِهِ مِنْ أَجْلِ شُغْلِكُمْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَهْلِيكُمْ، بَلْ تَخَلَّفْتُمْ بَعْدَهُ فِي مَنَازِلِكُمْ، ظَنًّا مِنْكُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ سَيَهْلِكُونَ، فَلَا يَرْجِعُونَ إِلَيْكُمْ أَبَدًا بِاسْتِئْصَالِ الْعَدُوِّ إِيَّاهُمْ وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ، وَحَسَّنَ الشَّيْطَانُ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ، وَصَحَّحَهُ عِنْدَكُمْ حَتَّى حَسُنَ عِنْدَكُمُ التَّخَلُّفُ عَنْهُ، فَقَعَدْتُمْ عَنْ صُحْبَتِهِ {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} يَقُولُ: وَظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَنْ يَنْصُرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَأَنَّ الْعَدُوَّ سَيَقْهَرُونَهُمْ وَيَغْلِبُونَهُمْ فَيَقْتُلُونَهُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ}... إِلَى قَوْلِهِ {وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} قَالَ: ظَنُّوا بِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ لَنْ يَرْجِعُوا مِنْ وَجْهِهِمْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ سَيُهْلَكُونَ، فَذَلِكَ الَّذِي خَلَّفَهُمْ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ {وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} يَقُولُ: وَكُنْتُمْ قَوْمًا هَلْكَى لَا يَصْلُحُونَ لِشَيْءٍ مِنْ خَيْرٍ. وَقِيلَ: إِنَّ الْبُورَ فِي لُغَةِ أَذْرِعَاتٍ: الْفَاسِدُ؛ فَأَمَّا عِنْدَ الْعَرَبِ فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ. وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ: فَأَصْبَحَ مَا جَمَعُوا بُورًا أَيْ ذَاهِبًا قَدْ صَارَ بَاطِلًا لَا شَيْءَ مِنْهُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ: لَا يَنْفَـعُ الطُّـولُ مِنْ نُوكِ الْقُلُوبِ وَقَدْ *** يَهْـدِي الْإِلَـهُ سَـبِيلَ المَعْشَـرِ الْبُـورِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} قَالَ: فَاسِدِينَ. وَحَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} قَالَ: الْبُورُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ شَيْءٌ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ {وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} قَالَ: هَالِكِينَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ أَيُّهَا الْأَعْرَابُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْكُمْ وَمِنْ غَيْرِكُمْ، فَيُصَدِّقُهُ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَيُقِرُّ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ، فَإِنَّا أَعْدَدْنَا لَهُمْ جَمِيعًا سَعِيرًا مِنَ النَّارِ تَسْتَعِرُ عَلَيْهِمْ فِي جَهَنَّمَ إِذَا وَرَدُوهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ يُقَالُ مِنْ ذَلِكَ: سَعَرْتُ النَّارَ: إِذَا أَوْقَدْتُهَا، فَأَنَا أَسْعُرُهَا سَعْرًا؛ وَيُقَالُ: سَعَرْتُهَا أَيْضًا إِذَا حَرَّكْتُهَا. وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْمِسْعَرِ مِسْعَرٌ، لِأَنَّهُ يُحَرَّكُ بِهِ النَّارُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ لَمُسْعِرُ حَرْبٍ: يُرَادُ بِهِ مُوقِدُهَا وَمُهَيِّجُهَا. وَقَوْلُهُ {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلِلَّهِ سُلْطَانُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَلَا أَحَدَ يَقْدِرُ أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ عَلَى دَفْعِهِ عَمَّا أَرَادَ بِكُمْ مِنْ تَعْذِيبٍ عَلَى نِفَاقِكُمْ إِنْ أَصْرَرْتُمْ عَلَيْهِ أَوْ مَنْعِهِ مِنْ عَفْوِهِ عَنْكُمْ إِنْ عَفَا، إِنْ أَنْتُمْ تُبْتُمْ مِنْ نِفَاقِكُمْ وَكُفْرِكُمْ، وَهَذَا مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ حَثٌّ لِهَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى التَّوْبَةِ وَالْمُرَاجَعَةِ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فِي طَاعَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ لَهُمْ: بَادِرُوا بِالتَّوْبَةِ مِنْ تُخَلُّفِكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِلتَّائِبِينَ (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) يَقُولُ: وَلَمْ يَزَلِ اللَّهُ ذَا عَفْوٍ عَنْ عُقُوبَةِ التَّائِبِينَ إِلَيْهِ مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ مِنْ عِبَادِهِ، وَذَا رَحْمَةٍ بِهِمْ أَنْ يُعَاقِبَهُمْ عَلَى ذُنُوبِهِمْ بَعْدَ تَوْبَتِهِمْ مِنْهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلٌ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَيَّيْهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَيَقُولُ يَا مُحَمَّدُ الْمُخَلَّفُونَ فِي أَهْلِيهِمْ عَنْ صُحْبَتِكَ إِذَا سِرْتَ مُعْتَمِرًا تُرِيدُ بَيْتَ اللَّهِ الْحَرَامَ، إِذَا انْطَلَقْتَ أَنْتَ وَمَنْ صَحِبَكَ فِي سَفَرِكَ ذَلِكَ إِلَى مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَيْهِمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ (لِتَأْخُذُوهَا) وَذَلِكَ مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ غَنَائِمِ خَيْبَرَ {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} إِلَى خَيْبَرَ، فَنَشْهَدُ مَعَكُمْ قِتَالَ أَهْلِهَا {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} يَقُولُ: يُرِيدُونَ أَنْ يُغَيِّرُوا وَعْدَ اللَّهِ الَّذِي وَعَدَ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ غَنَائِمَ خَيْبَرَ لَهُمْ، وَوَعَدَهُمْ ذَلِكَ عِوَضًا مِنْ غَنَائِمِ أَهْلِ مَكَّةَ إِذَا انْصَرَفُوا عَنْهُمْ عَلَى صُلْحٍ، وَلَمْ يُصِيبُوا مِنْهُمْ شَيْئًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: رَجَعَ، يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَكَّةَ، فَوَعَدَهُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً، فَعُجِّلَتْ لَهُ خَيْبَرُ، فَقَالَ الْمُخَلَّفُونَ {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} وَهِيَ الْمَغَانِمُ لِيَأْخُذُوهَا الَّتِي قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ قِتَالَ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، عَنْ مِقْسَمٍ قَالَ: لَمَّا وَعَدَهُمُ اللَّهُ أَنْ يَفْتَحَ عَلَيْهِمْ خَيْبَرَ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ وَعَدَهَا مَنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ لَمْ يُعْطِ أَحَدًا غَيْرَهُمْ مِنْهَا شَيْئًا، فَلَمَّا عَلِمَ الْمُنَافِقُونَ أَنَّهَا الْغَنِيمَةُ قَالُوا {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} يَقُولُ: مَا وَعَدَهُمْ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ}.... الْآيَةَ، وَهُمُ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ. ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا صَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيِ، «قَالَ الْمِقْدَادُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّا وَاللَّهِ لَا نَقُولُ كَالْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ قَالُوا لِنَبِيِّهِمْ {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ} وَلَكِنْ نَقُولُ: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتَلَا إِنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ؛ فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ أَصْحَابُ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَايَعُوا عَلَى مَا قَالَ؛ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ قُرَيْشًا، وَرَجَعَ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ"». وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِقَوْلِهِ {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} إِرَادَتَهُمُ الْخُرُوجَ مَعَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا}.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ}... الْآيَةَ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ رَجَعَ مِنْ غَزْوِهِ، {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا}.... الْآيَةَ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ: أَرَادُوا أَنْ يُغَيِّرُوا كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَخْرُجُوا مَعَهُ وَأَبَى اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَنَبِيُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ قَوْلٌ لَا وَجْهَ لَهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} إِنَّمَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْصَرَفَهُ مِنْ تَبُوكَ، وَعُنِيَ بِهِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْهُ حِينَ تَوَجَّهَ إِلَى تَبُوكَ لِغَزْوِ الرُّومِ، وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِمَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ تَبُوكَ كَانَتْ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ وَبَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ أَيْضًا، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا مَعْنِيًّا بِقَوْلِ اللَّهِ {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} وَهُوَ خَبَرٌ عَنِ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الْمَسِيرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ شَخَصَ مُعْتَمِرًا يُرِيدُ الْبَيْتَ، فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الْبَيْتِ، الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَغَزْوَةُ تَبُوكَ لَمْ تَكُنْ كَانَتْ يَوْمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَلَا كَانَ أُوحِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا}. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَالصَّوَاب مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ: مَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّا. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَبَعْضُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ (كَلَامَ اللَّهِ) عَلَى وَجْهِ الْمَصْدَرِ، بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ (كَلِمَ اللَّهِ) بِغَيْرِ أَلِفٍ، بِمَعْنَى جَمْعِ كَلِمَةٍ، وَهُمَا عِنْدَنَا قِرَاءَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ فِي قِرَاءَةِ الْأَمْصَارِ مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، وَإِنْ كُنْتُ إِلَى قِرَاءَتِهِ بِالْأَلَفِ أَمْيَلَ. وَقَوْلُهُ {قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْمُخَلَّفِينَ عَنِ الْمَسِيرِ مَعَكَ يَا مُحَمَّدُ: لَنْ تَتَّبِعُونَا إِلَى خَيْبَرَ إِذَا أَرَدْنَا السَّيْرَ إِلَيْهِمْ لِقِتَالِهِمْ {كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} يَقُولُ: هَكَذَا قَالَ اللَّهُ لَنَا مِنْ قَبْلِ مَرْجِعِنَا إِلَيْكُمْ، أَنَّ غَنِيمَةَ خَيْبَرَ لِمَنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ مَعَنَا، وَلَسْتُمْ مِمَّنْ شَهِدَهَا، فَلَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَتَّبِعُونَا إِلَى خَيْبَرَ؛ لِأَنَّ غَنِيمَتَهَا لِغَيْرِكُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} أَيْ إِنَّمَا جُعِلَتِ الْغَنِيمَةُ لِأَهْلِ الْجِهَادِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ غَنِيمَةُ خَيْبَرَ لِمَنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ فِيهَا نَصِيبٌ. وَقَوْلُهُ {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} أَنْ نَصِيبَ مَعَكُمْ مَغْنَمًا إِنْ نَحْنُ شَهِدْنَا مَعَكُمْ، فَلِذَلِكَ تَمْنَعُونَنَا مِنَ الْخُرُوجِ مَعَكُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} أَنْ نَصِيبَ مَعَكُمْ غَنَائِمَ. وَقَوْلُهُ {بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ: مَا الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ مِنْ أَنَّكُمْ إِنَّمَا تَمْنَعُونَهُمْ مِنَ اتِّبَاعِكُمْ حَسَدًا مِنْكُمْ لَهُمْ عَلَى أَنْ يُصِيبُوا مَعَكُمْ مِنَ الْعَدُوِّ مَغْنَمًا، بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ عَنِ اللَّهِ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ إِلَّا قَلِيلًا يَسِيرًا، وَلَوْ عَقَلُوا ذَلِكَ مَا قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَقَدْ أَخْبَرُوهُمْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ حَرَمَهُمْ غَنَائِمَ خَيْبَرَ، إِنَّمَا تَمْنَعُونَنَا مِنْ صُحْبَتِكُمْ إِلَيْهَا لِأَنَّكُمْ تَحْسُدُونَنَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قُلْ) يَا مُحَمَّدُ {لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ} عَنِ الْمَسِيرِ مَعَكَ، (سَتُدْعَوْنَ إِلَى) قِتَالِ (قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ) فِي الْقِتَالِ (شَدِيدٍ). وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى قِتَالِهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمْ أَهْلُ فَارِسَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} أَهْلُ فَارِسَ. حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى الْفَزَارِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ، عَنْ ثَابِتٍ البُنَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، فِي قَوْلِهِ {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} قَالَ: فَارِسُ وَالرُّومُ. قَالَ: أَخْبَرَنَا دَاوُدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ، فِي قَوْلِهِ {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} قَالَ: هُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ {أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} قَالَ: هُمْ فَارِسُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: دُعُوا إِلَى فَارِسَ وَالرُّومِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} قَالَ: فَارِسُ وَالرُّومُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُمْ هَوَازِنُ بِحُنَيْنٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} قَالَ: هَوَازِنُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} قَالَ: هَوَازِنُ وَثَقِيفٌ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ {أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} قَالَ: هِيَ هَوَازِنُ وغَطَفَانُ يَوْمَ حُنَيْنٍ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} فَدُعُوا يَوْمَ حُنَيْنٍ إِلَى هَوَازِنَ وَثَقِيفٍ فَمِنْهُمْ مَنْ أَحْسَنَ الْإِجَابَةَ وَرَغِبَ فِي الْجِهَادِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُمْ بَنُو حَنِيفَةَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ {أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} قَالَ بَنُو حَنِيفَةَ مَعَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبيرٍ وَعِكْرِمَةَ أَنَّهُمَا كَانَا يَزِيدَانِ فِيهِ هَوَازِنَ وَبَنِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ تَأْتِ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} لَمْ تَأْتِ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُمُ الرُّومُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، قَالَ: ثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا الْفَرَجُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَلَاعِيُّ، عَنْ كَعْبٍ، قَالَ {أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} قَالَ: الرُّومُ. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنَّهُمْ سَيُدْعَوْنَ إِلَى قِتَالِ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ فِي الْقِتَالِ، وَنَجْدَةٍ فِي الْحُرُوبِ، وَلَمْ يُوضَعْ لَنَا الدَّلِيلُ مِنْ خَبَرٍ وَلَا عَقْلٍ عَلَى أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِذَلِكَ هَوَازِنُ، وَلَا بَنُو حَنِيفَةَ وَلَا فَارِسُ وَلَا الرُّومُ، وَلَا أَعْيَانٌ بِأَعْيَانِهِمْ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عُنِيَ بِذَلِكَ بَعْضُ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عُنِيَ بِهِمْ غَيْرُهُمْ، وَلَا قَوْلَ فِيهِ أَصَحُّ مِنْ أَنْ يُقَالَ كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: إِنَّهُمْ سَيُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ. وَقَوْلُهُ {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ تُقَاتِلُونَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تُدْعَوْنَ إِلَى قِتَالِهِمْ، أَوْ يُسْلِمُونَ مِنْ غَيْرِ حَرْبٍ وَلَا قِتَالٍ. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ (تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُوا)، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى خِلَافِ مَصَاحِفِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، وَخِلَافًا لِمَا عَلَيْهِ الْحُجَّةُ مِنَ الْقُرَّاءِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ عِنْدِي الْقِرَاءَةُ بِهَا لِذَلِكَ تَأْوِيلُ ذَلِكَ: تُقَاتِلُونَهُمْ أَبَدًا إِلَّا أَنْ يُسْلِمُوا، أَوْ حَتَّى يُسْلِمُوا. وَقَوْلُهُ {فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ فِي إِجَابَتِكُمْ إِيَّاهُ إِذَا دَعَاكُمْ إِلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْأُولِي الْبَأْسِ الشَّدِيدِ، فَتُجِيبُوا إِلَى قِتَالِهِمْ وَالْجِهَادِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ {يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا} يَقُولُ: يُعْطِكُمُ اللَّهُ عَلَى إِجَابَتِكُمْ إِيَّاهُ إِلَى حَرْبِهِمُ الْجَنَّةَ، وَهِيَ الْأَجْرُ الْحَسَنُ {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ} يَقُولُ: وَإِنْ تَعْصُوا رَبَّكُمْ فَتُدْبِرُوا عَنْ طَاعَتِهِ وَتُخَالِفُوا أَمْرَهُ، فَتَتْرُكُوا قِتَالَ الْأُولِي الْبَأْسِ الشَّدِيدِ إِذَا دُعِيتُمْ إِلَى قِتَالِهِمْ {كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ} يَقُولُ: كَمَا عَصَيْتُمُوهُ فِي أَمْرِهِ إِيَّاكُمْ بِالْمَسِيرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُدْعَوْا إِلَى قِتَالِ أُولِي الْبَأْسِ الشَّدِيدِ {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} يَعْنِي: وَجِيعًا، وَذَلِكَ عَذَابُ النَّارِ عَلَى عِصْيَانِكُمْ إِيَّاهُ، وَتَرْكِكُمْ جِهَادَهُمْ وَقِتَالَهُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى مِنْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ضِيقٌ، وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ ضِيقٌ، وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ ضِيقٌ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِ الْجِهَادِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَشُهُودِ الْحَرْبِ مَعَهُمْ إِذَا هُمْ لَقُوا عَدُوَّهُمْ، لِلْعِلَلِ الَّتِي بِهِمْ، وَالْأَسْبَابِ الَّتِي تَمْنَعُهُمْ مِنْ شُهُودِهَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}. قَالَ: هَذَا كُلُّهُ فِي الْجِهَادِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ثُمَّ عَذَرَ اللَّهُ أَهْلَ الْعُذْرِ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} قَالَ: فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ}... الْآيَةَ، يَعْنِي فِي الْقِتَالِ. وَقَوْلُهُ {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَيُجِبْ إِلَى حَرْبِ أَعْدَاءِ اللَّهِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَإِلَى الْقِتَالِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ إِذَا دُعِيَ إِلَى ذَلِكَ، يُدْخِلْهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ {وَمَنْ يَتَوَلَّ} يَقُولُ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَيَتَخَلَّفْ عَنْ قِتَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ إِذَا دُعِيَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَسْتَجِبْ لِدُعَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا مُوجِعًا، وَذَلِكَ عَذَابُ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ يَا مُحَمَّدُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} يَعْنِي بَيْعَةَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُولُ اللَّهِ بِالْحُدَيْبِيَةِ حِينَ بَايَعُوهُ عَلَى مُنَاجَزَةِ قُرَيْشٍ الْحَرْبَ، وَعَلَى أَنْ لَا يَفِرُّوا، وَلَا يُوَلُّوهُمُ الدُّبُرَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَكَانَتْ بَيْعَتُهُمْ إِيَّاهُ هُنَالِكَ فِيمَا ذُكِرَ تَحْتَ شَجَرَةٍ. وَكَانَسَبَبُ هَذِهِ الْبَيْعَةِالْحُدَيْبِيَةِ مَا قِيلَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَرْسَلَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِرِسَالَتِهِ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ قُرَيْشٍ، فَأَبْطَأَ عُثْمَانُ عَلَيْهِ بَعْضَ الْإِبْطَاءِ، فَظَنَّ أَنَّهُ قَدْ قُتِلَ، فَدَعَا أَصْحَابَهُ إِلَى تَجْدِيدِ الْبَيْعَةِ عَلَى حَرْبِهِمْ عَلَى مَا وَصَفْتُ، فَبَايَعُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْبَيْعَةُ الَّتِي تُسَمَّى بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَكَانَ الَّذِينَ بَايَعُوهُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ فِيمَا ذُكِرَ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ: أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَفِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ: أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، وَفِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ: أَلْفًا وَثَلَاثَمِائَةٍ. ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِمَا وَصَفْنَا مِنْ سَبَبِ هَذِهِ الْبَيْعَةِ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا خِرَاشَ بْنَ أُمَيَّةَ الْخُزَاعِيَّ، فَبَعَثَهُ إِلَى قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ، وَحَمَلَهُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ الثَّعْلَبُ، لِيُبَلِّغَ أَشْرَافَهُمْ عَنْهُ مَا جَاءَ لَهُ، وَذَلِكَ حِينَ نَزَلَ الْحُدَيْبِيَةَ، فَعَقَرُوا بِهِ جَمَلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَرَادُوا قَتْلَهُ، فَمَنَعَهُ الْأَحَابِيشُ فَخَلَّّوْا سَبِيلَهُ، حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لِيَبْعَثَهُ إِلَى مَكَّةَ، فَيُبَلِّغَ عَنْهُ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مَا جَاءَ لَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَخَافُ قُرَيْشًا عَلَى نَفْسِي، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ مِنْ بَنِي عُدَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَحَدٌ يَمْنَعُنِي، وَقَدْ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ عَدَاوَتِي إِيَّاهَا، وَغِلْظَتِي عَلَيْهِمْ، وَلَكِنِّي أَدُلُّك عَلَى رَجُلٍ هُوَ أَعَزُّ بِهَا مِنِّي عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُثْمَانَ، فَبَعَثَهُ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ وَأَشْرَافِ قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِحَرْبٍ، وَإِنَّمَا جَاءَ زَائِرًا لِهَذَا الْبَيْتِ مُعَظِّمًا لِحُرْمَتِهِ، فَخَرَجَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَلَقِيَهُ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ أَوْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا، فَنَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ، فَحَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ رَدَفَهُ وَأَجَارَهُ حَتَّى بَلَّغَ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْطَلَقَ عُثْمَانُ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ وَعُظَمَاءَ قُرَيْشٍ، فَبَلَّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَرْسَلَهُ بِهِ، فَقَالُوا لِعُثْمَانَ حِينَ فَرَغَ مِنْ رِسَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَطُفْ بِهِ، قَالَ: مَا كُنْتَ لِأَفْعَلَ حَتَّى يَطُوفَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاحْتَبَسَتْهُ قُرَيْشٌ عِنْدَهَا، فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِل». قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ " «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ، قَالَ: لَا نَبْرَحُ حَتَّى نُنَاجِزَ الْقَوْمَ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ، فَكَانَتْبَيْعَةُ الرِّضْوَانِتَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَكَانَ النَّاسُ يَقُولُونَ: بَايَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَوْتِ فَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُبَايِعْنَا عَلَى الْمَوْتِ، وَلَكِنَّهُ بَايَعَنَا عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ، فَبَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ النَّاسُ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَضَرَهَا إِلَّا الْجِدُّ بْنُ قَيْسٍ أَخُو بَنِي سَلَمَةَ، كَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: لِكَأَنِيٍّ أَنْظُرُ إِلَيْهِ لَاصِقًا بِإِبِطِ نَاقَتِهِ، قَدِ اخْتَبَأَ إِلَيْهَا، يَسْتَتِرُ بِهَا مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ أَمْرِ عُثْمَانَ بَاطِل». حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ الْأَسَدِيُّ، قَالَ: ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، قَالَ: «قَالَ سَلَمَةُ: "بَيْنَمَا نَحْنُ قَائِلُونَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّهَا النَّاسُ الْبَيْعَةَ الْبَيْعَةَ، نَزَل َرُوحُ الْقُدُسِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، قَالَ: فَثُرْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ تَحْتَ شَجَرَةِ سَمُرَةٍ، قَالَ: فَبَايَعْنَاهُ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}». حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ الْيَشْكُرِيُّ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: كَانَأَوَّلُ مَنْ بَايَعَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِرَجُلٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهُ أَبُو سِنَانِ بْنُ وَهْبٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: كَانَ جَدِّي يُقَالُ لَهُ حَزْنٌ، وَكَانَ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَأَتَيْنَاهَا مِنْ قَابَلٍ، فَعُمِّيَتْ عَلَيْنَا. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، «عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ " أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ النَّاسَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَوْتِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى مَا اسْتَطَعْتُم». وَالشَّجَرَةُ الَّتِي بُويِعَ تَحْتَهَا بِفَجٍّ نَحْوَ مَكَّةَ، وَزَعَمُوا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرَّ بِذَلِكَ الْمَكَانِ بَعْدَ أَنْ ذَهَبَتِ الشَّجَرَةُ، فَقَالَ: أَيْنَ كَانَتْ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ هُنَا، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هَاهُنَا، فَلَمَّا كَثُرَ اخْتِلَافُهُمْ قَالَ: سِيرُوا، هَذَا التَّكَلُّفُ فَذَهَبَتِ الشَّجَرَةُ وَكَانَتْ سَمُرَةً إِمَّا ذَهَبَ بِهَا سَيْلٌ، وَإِمَّا شَيْءٌ سِوَى ذَلِكَ". ذِكْرُ عَدَدِ الَّذِينَ بَايَعُوا هَذِهِ الْبَيْعَةَ: وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي عَدَدِهِمْ، وَنَذْكُرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ قَائِلِي الْمَقَالَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ مَنْ قَالَ: عَدَدُهُمْ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَسْعُودِيُّ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: "كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةَ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، فَبَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ، وَلَمْ نُبَايِعْهُ عَلَى الْمَوْتِ، قَالَ: فَبَايَعْنَاهُ كُلُّنَا إِلَّا الْجَدَّ بْنَ قَيْسٍ اخْتَبَأَ تَحْتَ إِبِطِ نَاقَتِهِ". حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، أَخْبَرَنِي الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ "أَنَّهُمْ كَانُوا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، فَبَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُمَرُ آخِذٌ بِيَدِهِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَهِيَ سَمُرَةٌ، فَبَايَعْنَا غَيْرَ الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيِّ، اخْتَبَأَ تَحْتَ إِبِطِ بَعِيرِهِ، قَالَ جَابِرٌ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ وَلَمْ نُبَايِعْهُ عَلَى الْمَوْتِ". حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ، قَالَ: ثَنَا هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَسَعِيدُ بْنُ شُرَحْبِيلَ الْمِصْرِيُّ، قَالَا: ثَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ الْمِصْرِيُّ قَالَ: ثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: "كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، فَبَايَعْنَاهُ وَعُمْرُ آخِذٌ بِيَدِهِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَهِيَ سَمُرَةٌ، فَبَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ، وَلَمْ نُبَايِعْهُ عَلَى الْمَوْتِ، يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ وَابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا ثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: "إِنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: إِنَّ أَصْحَابَ الشَّجَرَةِ كَانُوا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، قَالَ سَعِيدٌ: نَسِيَ جَابِرٌ هُوَ قَالَ لِي كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ". حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: ثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا أَصْحَابَ الْحُدَيْبِيَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً. ذِكْرُ مَنْ قَالَ: كَانَ عِدَّتُهُمْ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْبَيْعَةِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ. حَدَّثَنِي بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: "الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَجُعِلَتْ لَهُمْ مَغَانِمُ خَيْبَرَ كَانُوا يَوْمَئِذٍ خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً، وَبَايَعُوا عَلَى أَنْ لَا يَفِرُّوا عَنْهُ". ذِكْرُ مَنْ قَالَ: كَانُوا أَلْفًا وَثَلَاثَمِائَةٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى يَقُولُ: "كَانُوا يَوْمَ الشَّجَرَةِ أَلْفًا وَثَلَاثَمِائَةٍ، وَكَانَتْ أَسْلَمُ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ". وَقَوْلُهُ {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَعَلِمَ رَبُّكَ يَا مُحَمَّدُ مَا فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَصْحَابِكَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، مِنْ صِدْقِ النِّيَّةِ، وَالْوَفَاءِ بِمَا يُبَايِعُونَكَ عَلَيْهِ، وَالصَّبْرِ مَعَكَ {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} يَقُولُ: فَأَنْزَلَ الطُّمَأْنِينَةَ، وَالثَّبَاتَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ دِينِهِمْ وَحُسْنِ بَصِيرَتِهِمْ بِالْحَقِّ الَّذِي هَدَاهُمُ اللَّهُ لَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ}: أَيِ الصَّبْرَ وَالْوَقَارَ. وَقَوْلُهُ {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} يَقُولُ: وَعَوَّضَهُمْ فِي الْعَاجِلِ مِمَّا رَجَوُا الظَّفَرَ بِهِ مِنْ غَنَائِمِ أَهْلِ مَكَّةَ بِقِتَالِهِمْ أَهْلَهَا فَتْحًا قَرِيبًا، وَذَلِكَ فِيمَا قِيلَ: فَتْحُ خَيْبَرَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} قَالَ: خَيْبَرُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} وَهِيَ خَيْبَرُ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهَا خَيْبَرُ. وَقَوْلُهُ {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَثَابَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، مَعَ مَا أَكْرَمَهُمْ بِهِ مِنْ رِضَاهُ عَنْهُمْ، وَإِنْزَالِهِ السِّكِّينَةَ عَلَيْهِمْ، وَإِثَابَتِهِ إِيَّاهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا، مَعَهُ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ يَأْخُذُونَهَا مِنْ أَمْوَالِ يَهُودِ خَيْبَرَ، فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ ذَلِكَ خَاصَّةً لِأَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَقَوْلُهُ (وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) يَقُولُ: وَكَانَ اللَّه ذَا عِزَّةٍ فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنِ انْتَقَمَ مِنْ أَعْدَائِهِ، حَكِيمًا فِي تَدْبِيرِهِ خَلْقَهُ وَتَصْرِيفِهِ إِيَّاهُمْ فِيمَا شَاءَ مِنْ قَضَائِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِأَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ} أَيُّهَا الْقَوْمُ {مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا}. اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي هَذِهِ الْمَغَانِمِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ وَعَدَهَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ أَيُّ الْمَغَانِمِ هِيَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ كُلُّ مَغْنَمٍ غَنَّمَهَا اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ لَدُنْ أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} قَالَ: الْمَغَانِمُ الْكَثِيرَةُ الَّتِي وُعِدُوا: مَا يَأْخُذُونَهَا إِلَى الْيَوْمِ. وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَحْتَمِلُ الْكَلَامُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِالْمَغَانِمِ الثَّانِيَةِ الْمَغَانِمَ الْأُولَى، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا، وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا، وَعَدَكُمُ اللَّهَ أَيُّهَا الْقَوْمُ هَذِهِ الْمَغَانِمَ الَّتِي تَأْخُذُونَهَا، وَأَنْتُمْ إِلَيْهَا وَاصِلُونَ عِدَةً، فَجَعَلَ لَكُمُ الْفَتْحَ الْقَرِيبَ مِنْ فَتْحِ خَيْبَرَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الثَّانِيَةُ غَيْرَ الْأُولَى، وَتَكُونَ الْأُولَى مِنْ غَنَائِمَ خَيْبَرَ، وَالْغَنَائِمُ الثَّانِيَةُ الَّتِي وَعَدَهُمُوهَا مِنْ غَنَائِمِ سَائِرِ أَهْلِ الشِّرْكِ سِوَاهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: هَذِهِ الْمَغَانِمُ الَّتِي وَعَدَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ هِيَ مَغَانِمُ خَيْبَرَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} قَالَ: يَوْمَ خَيْبَرَ، قَالَ: كَانَ أَبِي يَقُولُ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّتِي عُجِّلَتْ لَهُمْ، فَقَالَ جَمَاعَةٌ: غَنَائِمُ خَيْبَرَ وَالْمُؤَخَّرَةُ سَائِرُ فُتُوحِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} قَالَ: عَجَّلَ لَكُمْ خَيْبَرَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} وَهِيَ خَيْبَرُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِذَلِكَ الصُّلْحَ الَّذِي كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} قَالَ: الصُّلْحُ. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ بِالصَّوَابِ مَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي أَثَابَهُمُ اللَّهُ مِنْ مَسِيرِهِمْ ذَلِكَ مَعَ الْفَتْحِ الْقَرِيبِ الْمَغَانِمَ الْكَثِيرَةَ مِنْ مَغَانِمِ خَيْبَرَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَغْنَمُوا بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ غَنِيمَةً، وَلَمْ يَفْتَحُوا فَتْحًا أَقْرَبَ مِنْ بَيْعَتِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ إِلَيْهَا مِنْ فَتْحِ خَيْبَرَ وَغَنَائِمِهَا. وَأُمَّا قَوْلُهُ {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً} فَهِيَ سَائِرُ الْمَغَانِمِ الَّتِي غَنَّمَهُمُوهَا اللَّهُ بَعْدَ خَيْبَرَ، كَغَنَائِمِ هَوَازِنَ، وَغَطَفَانَ، وَفَارِسَ، وَالرُّومِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ كَذَلِكَ دُونَ غَنَائِمِ خَيْبَرَ، لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ عَجَّلَ لَهُمْ هَذِهِ الَّتِي أَثَابَهُمْ مِنْ مَسِيرِهِمُ الَّذِي سَارُوهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ، وَلِمَا عَلِمَ مِنْ صِحَّةِ نِيَّتِهِمْ فِي قِتَالِ أَهْلِهَا، إِذْ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى أَنْ لَا يَفِرُّوا عَنْهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّتِي عُجِّلَتْ لَهُمْ غَيْرُ الَّتِي لَمْ تُعَجَّلْ لَهُمْ. وَقَوْلُهُ {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِأَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ: وَكَفَّ اللَّهُ أَيْدِيَ الْمُشْرِكِينَ عَنْكُمْ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِينَ كُفَّتْ أَيْدِيهِمْ عَنْهُمْ مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمُ الْيَهُودُ كَفَّ اللَّهُ أَيْدِيَهُمْ عَنْ عِيَالِ الَّذِينَ سَارُوا مِنَ الْمَدِينَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ}: عَنْ بُيُوتِهِمْ، وَعَنْ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ حِينَ سَارُوا إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ وَإِلَى خَيْبَرَ، وَكَانَتْ خَيْبَرُ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} قَالَ: كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ أَيْدِي قُرَيْشٍ إِذْ حَبَسَهُمُ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا لَهُ عَلَى مَكْرُوهٍ. وَالَّذِي قَالَهُ قَتَادَةُ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَشْبَهُ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ كَفَّ اللَّهِ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ عَنْ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ قَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِيقَوْلِهِ {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الْكَفَّ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} غَيْرَ الْكَفِّ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ}. وَقَوْلُهُ {وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} يَقُولُ: وَلِيَكُونَ كَفُّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَيْدِيَهُمْ عَنْ عِيَالِهِمْ آيَةً وَعِبْرَةً لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ فَيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَوَلِّي حِيَاطَتَهُمْ وَكَلَاءَتَهُمْ فِي مَشْهَدِهِمْ وَمُغِيبِهِمْ، وَيَتَّقُوا اللَّهَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ بِالْحِفْظِ وَحُسْنِ الْوِلَايَةِ مَا كَانُوا مُقِيمِينَ عَلَى طَاعَتِهِ، مُنْتَهِينَ إِلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ {وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} يَقُولُ: وَذَلِكَ آيَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ كَفُّ أَيْدِي النَّاسِ عَنْ عِيَالِهِمْ {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} يَقُولُ: وَيُسَدِّدُكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ طَرِيقًا وَاضِحًا لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، فَيُبَيِّنُهُ لَكُمْ، وَهُوَ أَنْ تَثِقُوا فِي أُمُورِكُمْ كُلِّهَا بِرَبِّكُمْ، فَتَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ فِي جَمِيعِهَا، لِيَحُوطَكُمْ حِيَاطَتَهُ إِيَّاكُمْ فِي مَسِيرِكُمْ إِلَى مَكَّةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْفُسِكُمْ وَأَهْلِيكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُمْ أَثَرَ فِعْلِ اللَّهِ بِكُمْ، إِذْ وَثِقْتُمْ فِي مَسِيرِكُمْ هَذَا. وَقَوْلُهُ {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَوَعَدَكُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ رَبُّكُمْ فَتْحَ بَلْدَةٍ أُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَى فَتْحِهَا، قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا لَكُمْ حَتَّى يَفْتَحَهَا لَكُمْ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ الْأُخْرَى، وَالْقَرْيَةِ الْأُخْرَى الَّتِي وَعَدَهُمْ فَتْحَهَا الَّتِي أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ مُحِيطٌ بِهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ أَرْضُ فَارِسَ وَالرُّومِ، وَمَا يَفْتَحُهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْبِلَادِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكٍ الْحَنَفِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} فَارِسُ وَالرُّومُ. قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} قَالَ: فَارِسُ وَالرُّومُ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ، قَالَ: ثَنَا زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} قَالَ: حُدِّثَ عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: هِيَ فَارِسُ وَالرُّومُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ. قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} مَا فَتَحُوا حَتَّى الْيَوْمَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، فِي قَوْلِهِ {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} قَالَ: فَارِسُ وَالرُّومُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هِيَ خَيْبَرُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا}... الْآيَةَ، قَالَ: هِيَ خَيْبَرُ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} يَعْنِي خَيْبَرَ، بَعَثَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمئِذٍ، فَقَالَ: وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} قَالَ: خَيْبَر، قَالَ: لَمْ يَكُونُوا يَذْكُرُونَهَا وَلَا يَرْجُونَهَا حَتَّى أَخْبَرَهُمِ اللَّهُ بِهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} يَعْنِي أَهْلَ خَيْبَرَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هِيَ مَكَّةُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّهَا مَكَّةُ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّهَا مَكَّةُ. وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ قَتَادَةُ أَشْبَهُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ التَّنْزِيلِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، أَنَّهُ مُحِيطٌ بِقَرْيَةٍ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا، وَمَعْقُولٌ أَنَّهُ لَا يُقَالُ لِقَوْمٍ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى هَذِهِ الْمَدِينَةِ، إِلَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ رَامُوهَا فَتَعَذَّرَتْ عَلَيْهِمْ، فَأَمَّا وَهُمْ لَمْ يَرُومُوهَا فَتَتَعَذَّرْ عَلَيْهِمْ فَلَا يُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْصِدْ قَبْلِ نُزِولِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَيْهِ خَيْبَرَ لِحَرْبٍ، وَلَا وَجَّهَ إِلَيْهَا لِقِتَالِ أَهْلِهَا جَيْشًا وَلَا سَرِيَّةً، عُلِمَ أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِقَوْلِهِ {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} غَيْرُهَا، وَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي قَدْ عَالَجَهَا وَرَامَهَا، فَتَعَذَّرَتْ فَكَانَتْ مَكَّةُ وَأَهْلُهَا كَذَلِكَ، وَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ أَحَاطَ بِهَا وَبِأَهْلِهَا، وَأَنَّهُ فَاتِحُهَا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ مَا يَشَاءُ مِنَ الْأَشْيَاءِ ذَا قُدْرَةٍ، لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ شَيْءٌ شَاءَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} بِاللَّهِ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِمَكَّةَ {لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ} يَقُولُ: لَانْهَزَمُوا عَنْكُمْ، فَوَلَّوْكُمْ أَعْجَازَهُمْ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ الْمُنْهَزِمُ مِنْ قِرْنِهِ فِي الْحَرْبِ {ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} يَقُولُ: ثُمَّ لَا يَجِدُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ الْمُنْهَزِمُونَ عَنْكُمْ، الْمُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ، وَلِيًّا يُوَالِيهِمْ عَلَى حَرْبِكُمْ، وَلَا نَصِيرًا يَنْصُرُهُمْ عَلَيْكُمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ مَعَكُمْ، وَلَنْ يُغْلَبَ حِزْبٌ اللَّهُ نَاصِرُهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ} يَعْنِي كُفَّارَ قُرَيْشٍ، قَالَ اللَّهُ {ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} يَنْصُرُهُمْ مِنَ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَوْ قَاتَلَكُمْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ مِنْ قُرَيْشٍ، لَخَذَلَهُمُ اللَّهُ حَتَّى يَهْزِمَهُمْ عَنْكُمْ خُذْلَانَهُ أَمْثَالَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ، الَّذِينَ قَاتَلُوا أَوْلِيَاءَهُ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ مَضَوْا قَبْلَهُمْ. وَأَخْرَجَ قَوْلَهُ (سُنَّةَ اللَّهِ) نَصْبًا مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي قَوْلِهِ {لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} مَعْنَى سَنَنْتُ فِيهِمُ الْهَزِيمَةَ وَالْخِذْلَانَ، فَلِذَلِكَ قِيلَ: (سُنَّةَ اللَّهِ) مَصْدَرًا مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ لَا مِنْ لَفْظِهِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَفْسِيرًا لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْكَلَامِ. وَقَوْلُهُ {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَنْ تَجِدَ يَا مُحَمَّدُ لِسُنَّةِ اللَّهِ الَّتِي سَنَّهَا فِي خَلْقِهِ تَغْيِيرًا، بَلْ ذَلِكَ دَائِمٌ لِلْإِحْسَانِ جَزَاؤُهُ مِنَ الْإِحْسَانِ، وَلِلْإِسَاءَةِ وَالْكُفْرِ الْعِقَابُ وَالنَّكَالُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِينَ بَايَعُوا بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ كَفَّ أَيْدِيَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا خَرَجُوا عَلَى عَسْكَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالْحُدَيْبِيَةِ يَلْتَمِسُونَ غِرَّتَهُمْ لِيُصِيبُوا مِنْهُمْ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَى بِهِمْ أَسْرَى، فَخَلَّى عَنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنَّ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَقْتُلْهُمْ فَقَالَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ عَنْكُمْ، وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ جَاءَتِ الْآثَارُ ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، قَالَ: ثَنِي ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ جَالِسًا فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَعَلَى ظَهْرِهِ غُصْنٌ مِنْ أَغْصَانِ الشَّجَرَةِ فَرَفَعْتُهَا عَنْ ظَهْرِهِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَهُوَ صَاحِبُ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: اكْتُبْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَأَمْسَكَ سُهَيْلٌ بِيَدِهِ، فَقَالَ: مَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ، اكْتُبْ فِي قَضِيَّتِنَا مَا نَعْرِفُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، فَكَتَبَ، فَقَالَ: هَذَا مَا صَالَحَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ أَهَّلَ مَكَّةَ، فَأَمْسَكَ سُهَيْلٌ بِيَدِهِ، فَقَالَ: لَقَدْ ظَلَمْنَاكَ إِنْ كُنْتَ رَسُولًا اكْتُبْ فِي قَضِيَّتِنَا مَا نَعْرِفُ قَالَ: اكْتُبْ هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا ثَلَاثُونَ شَابًّا عَلَيْهِمُ السِّلَاحُ، فَثَارُوا فِي وُجُوهِنَا، فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ اللَّهُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُمْنَا إِلَيْهِمْ فَأَخَذْنَاهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ خَرَجْتُمْ فِي أَمَانِ أَحَدٍ، قَالَ: فَخَلَّى عَنْهُمْ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ}». حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ، وَكَانَ غُصْنٌ مِنْ أَغْصَانِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ عَلَى ظَهْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَفَعْتُهُ عَنْ ظَهْرِه»، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: ثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ- عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ قُرَيْشًا كَانُوا بَعَثُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ أَوْ خَمْسِينَ، وَأَمَرُوهُمْ أَنْ يَطِيفُوا بِعَسْكَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيُصِيبُوا مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدًا، فَأَخَذُوا أَخْذًا، فَأُتِيَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَفَا عَنْهُمْ، وَخَلَّى سَبِيلَهُمْ، وَقَدْ كَانُوا رَمَوْا فِي عَسْكَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِجَارَةِ وَالنَّبْل». قَالَ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ سَلَمَةُ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَفِي ذَلِكَ قَالَ {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ}... الْآيَةَ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: أَقْبَلَ مُعْتَمِرًا نَبِيُّ اللَّهِ، فَأَخَذَ أَصْحَابُهُ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ غَافِلِينَ، فَأَرْسَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَلِكَ الْإِظْفَارُ بِبَطْنِ مَكَّةَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ، قَالَ: ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ ابْنُ عَائِشَة َ، قَالَ: ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، هَبَطُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مِنْ جَبَلِ التَّنْعِيمِ عِنْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ لِيَقْتُلُوهُمْ، فَأَخَذَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْتَقَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ}... إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ}... الْآيَةَ، قَالَ: بَطْنُ مَكَّةَ الْحُدَيْبِيَةُ... يُقَالُ لَهُ رِهْمٌ اطَّلَعَ الثَّنِيَّةَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَرَمَاهُ الْمُشْرِكُونَ بِسَهْمٍ فَقَتَلُوهُ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْلًا فَأَتَوْهُ بِاثْنَيْ عَشَرَ فَارِسًا مِنَ الْكُفَّارِ، فَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ لَكَمَ عَلَيَّ عَهْدٌ؟ هَلْ لَكَمَ عَلَيَّ ذِمَّةٌ؟، قَالُوا: لَا فَأَرْسَلَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْقُرْآنَ {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ}... إِلَى قَوْلِهِ {بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}. وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ: مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَعْقُوبُ القُمِّيُّ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبْزَى، قَالَ: «لَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَدْيِ، وَانْتَهَى إِلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ، قَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، تَدْخُلُ عَلَى قَوْمٍ لَكَ حَرْبٌ بِغَيْرِ سِلَاحٍ وَلَا كُرَاعٍ، قَالَ: فَبَعَثَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَمْ يَدَعْ بِهَا كُرَاعًا وَلَا سِلَاحًا إِلَّا حَمَلَهُ؛ فَلَمَّا دَنَا مِنْ مَكَّةَ مَنَعُوهُ أَنْ يَدْخُلَ، فَسَارَ حَتَّى أَتَى مِنًى، فَنَزَلَ بِمِنًى، فَأَتَاهُ عَيْنُهُ أَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ قَدْ خَرَجَ عَلَيْنَا فِي خَمْسِمِائَةٍ، فَقَالَ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ: يَا خَالِدُ هَذَا ابْنُ عَمِّكَ قَدْ أَتَاكَ فِي الْخَيْلِ، فَقَالَ خَالِدٌ: أَنَا سَيْفُ اللَّهِ وَسَيْفُ رَسُولِهِ، فَيَوْمئِذٍ سُمِّيَ سَيْفَ اللَّهِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، ارْمِ بِي حَيْثُ شِئْتَ، فَبَعَثَهُ عَلَى خَيْلٍ، فَلَقِيَ عِكْرِمَةَ فِي الشِّعْبِ فَهَزَمَهُ حَتَّى أَدْخَلَهُ حِيطَانَ مَكَّةَ، ثُمَّ عَادَ فِي الثَّانِيَةِ فَهَزَمَهُ حَتَّى أَدْخَلَهُ حِيطَانَ مَكَّةَ، ثُمَّ عَادَ فِي الثَّالِثَةِ حَتَّى أَدْخَلَهُ حِيطَانَ مَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ}... إِلَى قَوْلِهِ {عَذَابًا أَلِيمًا} قَالَ: فَكَفَّ اللَّهُ النَّبِيَّ عَنْهُمْ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَهُ عَلَيْهِمْ لِبَقَايَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا بَقُوا فِيهَا مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَهُ عَلَيْهِمْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَطَأَهُمُ الْخَيْلُ بِغَيْرِ عِلْم». وَقَوْلُهُ {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَكَانَ اللَّهُ بِأَعْمَالِكُمْ وَأَعْمَالِهِمْ بَصِيرًا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ.
|